مجزوءة التواصل و التنشيط
تقديم
يعد علم التواصل من العلوم التي تحظى بأهمية بالغة عند الدارسين، مهما اختلفت وتنوعت تخصصاتهم. ولهذا نجد مجموعة من الباحثين قد اهتموا بتقديم سلسلة من الأبحاث والدراسات التي تسعى لبلورة رؤية متكاملة، تأخذ بعين الاعتبار السياق الثقافي والاجتماعي لكل جوانب التواصل الإنساني.
هكذا، إذن، أصبحنا في عصرنا الحاضر في حاجة ملحة إلى دراسات نظرية وتطبيقية تهم مجال التواصل الإنساني؛ سواء في علاقته باللغة ( منطوقة أو مكتوبة)، أو في علاقته بالأيقونات المصاحبة للرسالة اللغوية ( رموزـ إشارات ـ حركات...)، أو في علاقته بالثقافة ، أو بالنظر في كل
هذه المكونات من أجل الارتقاء بالتواصل الإنساني، واستثماره في مختلف مناحي السلوك البشري، من مثل: التواصل والحياة المهنية، والتواصل والحياة العامة، والتواصل وفهم الآخر.
1 ـ مفهوم التواصل لغة واصطلاحا
أ ـ لغة:
من خصائص الإنسان أنه كائن اجتماعي لا يمكن أن يعيش في عزلة، يقول ابن خلدون في مقدمته:" إن الاجتماع الإنساني ضروري.” بمعنى أن حياة الإنسان لا تستقيم إلا بتعاونه مع أبناء جنسه لتوفير الغذاء والملبس والمأوى ولدفع الأعداء.فوجود
الجماعة أساسي في حياة الإنسان، لأنه خلق ليمد جسور التواصل مع الآخر، خلق لكي يفعل ويتفاعل.
يفيد التواصل في اللغة العربية الاقتران والاتصال والصلة والترابط والالتئام والجمع والإبلاغ والانتهاء والإعلام
جاء في لسان العرب أن أصل (تواصل) من " وصل: وصلت الشيء وصلا وصلة، والوصل ضد الهجران(...) والوصل خلاف الفصل(...) وفي التنزيل العزيز : ولقد وصلنا لهم القول، أي وصلنا ذكر الأنبياء وأقاصيص من مضى بعضها ببعض، لعلهم يعتبرون.واتصل الشيء بالشيء : لم ينقطع(...) والوصل ضد الهجران. التواصل ضد التصارم“.
يشير ابن منظور إلى أن التواصل هو تلك الصلة القوية بين الناس والترابط المتين فيما بينهم . كما يحمل دلالة نقل الأخبار وربط الشيء بالشيء. تتضمن لفظة " التواصل " في عمقها تفاعلا، فالمعنى الغالب لصيغتها الصرفية هو المطاوعة والمشاركة.
أما في اللغة الفرنسية، فقد ظهر الفعل ”تواصل“ communiquer و“التواصل“ communication في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي، ومعناه الأصلي الذي هو
"شارك في " قريب من اللاتنية وفعلها communicare وتعني الوضع داخل وحدة والوجود في علاقة . وهذا الوضع داخل وحدة ما يحمل ـ ظاهريا ـ وحدة الأجسام.
عرف هذا المصطلح تطورات كثيرة عبر العصور، وعموما يمكن إجمال معانيه في التعاريف الأربعة الآتية:
vإرسال شيء ما لشخص ما .
vالتحدث عن شيء ما .
vالتحاور مع شخص ما.
vالانتقال من مكان إلى آخر .
ب ـ اصطلاحا:
يدل التواصل في الاصطلاح على عملية نقل الأفكار والتجارب وتبادل المعارف والمشاعر بين الذوات والأفراد والجماعات. وقد يكون هذا التواصل ذاتيا شخصيا أو تواصلا غيريا، وقد ينبني على الموافقة أو على المعارضة والاختلاف .
يعرف شارل كولي charles cooley التواصل قائلا :"هو الميكانيزم الذي بواسطته توجد العلاقات الإنسانية وتتطور.إنه يتضمن كل رموز الذهن مع وسائل تبليغها عبر المجال وتعزيزها في الزمان. ويتضمن أيضا تعابير الوجه وهيئات الجسم والحركات ونبـــرة
الصوت والكلمات والكتابات والمطبوعات والقطارات والتلغراف والتلفون وكل ما يشمله آخر ما تم في الاكتشافات في المكان والزمان."
(charles cooley :« social organisation » ,cité in :J Lohisse : la communication anonyme :edition universitaire 1969 , P .42)
2 ـ أنواع التواصل
عند
الحديث عن التواصل، أو أثناء استعمال هذا المفهوم بمثابة مقاربة تحليلية، أو
منهجية إجرائية في استقراء العلاقات التفاعلية، أو قراءة النصوص والخطابات، أو فهم
الروابط الذهنية والوجدانية والحركية، لا بد من استحضار مجموعة من المفاهيم
النظرية، والعناصر الأساسية التطبيقية باعتبارها مكونات جوهرية في عملية التبادل
والتفاعل والتأثير. وهذه العناصر هي:
1ـ زمنية التواصل.
2ـ المكانية أو المحلية.
3ـ السنن أو لغة التواصل ( التشفير والتفكيك).
4ـ السياق.
5ـ رهانات التواصل.
6ـ التواصل اللفظي ( اللغة المنطوقة والمكتوبة)، والتواصل غير اللفظي (اللغة الجسدية والسيميائية).
7ـ إرادة التواصل ( بث الإرسالية قد يكون إراديا أو غير إرادي).
8ـ الفيدباك أو التغذية الراجعة، وذلك بتصحيح التواصل، وتقويته، وتدعيمه، وإنهائه.
وقد دأب الباحثون والمهتمون بحقل التواصل الإنساني عموما، على تقسيمه إلى قسمين كبيرين هما: التواصل اللفظي، والتواصل غير اللفظي؛ حيث يرتكز هذا التقسيم على اللغة المستعملة في العمليات التواصلية المختلفة.
أ ـ التواصل اللفظي:
يعتمد التواصل اللفظي على أصوات، ومقاطع، وكلمات، وجمل. ويتم عبر القناة الصوتية السمعية، أي يقوم أساسا على اللغة الإنسانية.
يؤكد الألسني الفرنسي أندريه مارتينيه أن اللغة الإنسانية باعتبارها مؤسسة من المؤسسات الإنسانية " إنما تنتج عن الحياة في المجتمع، وهذا
هو تماما حال اللغة الإنسانية التي تدرك بشكل أساسي كأداة للتواصل".
وقد كانت الوظيفة التواصلية في اللغة معروفة عند النحاة وعلماء اللغة العربية القدامى، فابن جني يقول في باب "القول على اللغة وما هي" أما حدها: " فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم".
وبما أن التواصل اللفظي يعتمد على اللغة المنطوقة وعلى اللغة المكتوبة، فإن مهارات المحادثة والاستماع والكتابة تشكل عناصر مهمة في كل عملية تواصلية. بل إن نجاح التواصل أو فشله يرتبط بمدى قدرة كل من المرسل والمتلقي على استثمارها على أحسن وجه.
üمهارة المحادثة:
تعد المحادثة أهم مهارة لدى المتكلم، نظرا للدور الأساسي الذي تحققه أثناء عملية التواصل. ولهذا على المتكلم أن يراعي جملة من الشروط والأهداف في كلامه، منها:
ـ سلامة اللغة نحوا وصرفا.
ـ تجنب العبارات والجمل الطويلة المشتتة لذهن المتلقي وتركيزه.
ـ تجنب الاستطراد والتفريع غير الضروري حرصا على محورية الفكرة.
ـ التعبير عن الأفكار بأسلوب جميل غير ممل؛ أي أن يكون الكلام بينا ودالا ولطيفا.
ـ استشعار الثقة بالنفس وامتلاك الشجاعة الأدبية في التعبير.
كما أن للصوت دورا مهما في العملية التواصلية القائمة أساسا على الإلقاء والتحدث أمام الجمهور. يتجلى ذلك فيما
يتركه من تأثير في نفوس المستمعين، سلبا أو إيجابا. فقد يساعد المتلقي على الفهم الجيد لكلام صاحبه إذا كان يتناسب مع المعاني، والتراكيب اللغوية المختلفة. وقد يتسبب في ضياع المعنى وعدم إبلاغه، إذا لم يعرف المتكلم كيف يكيف صوته، بين الحين والآخر، مع ما يريد إيصاله لمستمعيه،
المختلفة، من تعجب، واستفهام، وإنكار... لذلك يحتاج كل من يتولى القيادة أو الإدارة إلى البراعة في فن الإلقاء والتعبير، ليتمكن من إيضاح وجهة نظره بلغة بينة، وأساليب مقنعة، تحقق التفاعل بينه وبين جمهوره.
üمهارة الاستماع:
يشكل الاستماع مهارة أساسية بالنسبة للمستمع، تحكمها عمليات ذهنية مختلفة أهمها الفهم والتحليل، والاستنتاج. لذلك تحتاج هذه المهارة إلى ذهن صاف قادر على الربط والإدراك. إن الاستماع ليس إجراء لنقل فكرة من ذهن المتكلم إلى ذهن المستمع، بل هو إجراء لبلوغ فهم مشترك لدى كل منهما.
ويمكن أن نحدد بعض أنواع الاستماع بالنظر إلى الهدف منه:
ـ الاستماع للفهم وجمع المعلومات.
ـ الاستماع من أجل التقييم والانتقاد.
ـ الاستماع من أجل حل مشكل.
ـ الاستماع من أجل تحقيق المتعة والسعادة.
üمهارة الكتابة:
تستعمل مهارة الكتابة لتأدية عدة أغراض تواصلية متنوعة، كإعداد الكلمة التي سنلقيها أمام جمهور معين، أو تدوين الأفكار، وتلخيص المحاضرات، وأخذ النقط. ونستعملها كذلك لإعداد التقارير الصحفية أو الإدارية... لذلك يجب استثمارها بشكل جيد، يضمن تحقيق تواصل أفضل مع المتلقي. ويمكن الاستعانة بالنصائح الآتية:
ـ استعمال المصطلحات الواضحة التي لا تحتمل أكثر من معنى واحد، تجنبا لسوء الفهم ، أو التأويل غير المناسب.
ـ الكتابة بأسلوب سهل خال من التعقيد.
ـ تحديد الأفكار بدقة.
ب ـ التواصل غير اللفظي:
حـواجـبـنـا تــقضـي حـوائـجـنـا ونـحـن سـكـوت والهـوى يـتـكـلـم
تقوم القناة البصرية بدور أساسي في التواصل؛ لأنه لا يوظف فقط نسقا لغويا منطوقا فحسب، بل يستعمل، كذلك، نظاما من الإشارات، والحركات، والإيماءات التي تندرج فيما يسمى بالتواصل غير اللفظي،
وهو يتجلى بشكل واضح في المسرح والميم والموضة والرقص.. إنه مجموع الوسائل الاتصالية التي تقوم على الحركات وهيئات الجسم، وعلى كيفية تنظيم الأشياء. يقول فرويد: " من له عينان يرى بهما يعلم أن البشر لا يمكن أن يخفوا أي سر، فالذي تصمت شفتاه يتكلم بأطراف أصابعه ".
من هنا يساعدنا التواصل المرئي على تحديد الجوانب الآتية:
ـ تحديد المؤشرات الدالة على الانفعالات والعلاقات الوجدانية بين المتواصلين.
ـ تعزيز الخطاب اللغوي، وإغناء الرسالة وتدعيمها بالحركات لضمان استمرارية التواصل.
ـ التعبير عن الهوية الثقافية للمتواصلين من خلال نظام الحركات والإشارات الجسدية.
وقد حدد هاريسون Harrisson بعض العناصر التي تتصل بالتواصل غير اللفظي وحصرها في:
vالتعابير المنجزة بواسطة الجسد:
ـ أي كل الإشارات والحركات الجسدية التي يستعملها الفرد في تواصله مع الآخرين، إما في ارتباط مع الكلام، أو مستقلة عنه؛ كأن يحرك رأسه تعبيرا عن الرفض. أو يعطي انطباعا بالحزن من خلال طأطأة الرأس ووضع اليدين في الجيب مثلا.
ـ الإشارات اليدوية لها أدوار متعددة في العملية التواصلية؛ لأنها تحمل العديد من المعاني، مثل إشارة الإبهام نحو الأعلى، الدالة على النجاح.
ـ الوجه كتاب يقرأ الناس من خلاله معان قوية؛ أي إن الوجه مرآة عاكسة لكل العواطف والمشاعر الداخلية التي تبرز بشكل عفوي.
vكطريقة اللباس:
ـ اللباس هو أول ما ينتبه إليه كل شخص في تواصله مع الآخرين. ويمكن أن يزيد من احترام الشخص بين الناس، أو يقلل من شأنه.
v استعمال المجال والديكور:
ـ الطريقة التي نؤثث بها فضاءنا الخاص تتحدث عنا.
vالآثار التي تحدثها الألوان :
ـ فاللون الأبيض مثلا يدل في اليابان والدول الآسيوية الأخرى على الموت والحداد، وفي الثقافة الإسلامية يدل على الطهارة والصفاء، كما قد يوحي بالسلم والاستسلام.
3 ـ خصائص التواصل الفعال :
أ ـ خصائص مرتبطة بالمرسل والمتلقي والخطاب وقنوات التواصل وتقنياته:
vوضوح الهدف من التواصل لدى الأطراف والأفراد المعنيين به.
vالتركيز على الكيف بدل الكم في التواصل.
vوضوح الأسلوب واللغة ومناسبتهما لأهداف التواصل وللمعنيين به.
vاعتماد أساليب الاستمالة والتحبيب والإقناع .
vسيادة التفكير الإيجابي على التواصل بين الأطراف والأفراد المعنيين بالتواصل، وعلى المواقف من العمل والقضايا التي تكون موضوعا للتواصل .
vاستمرارية التواصل داخل المؤسسة ومع الشركاء بواسطة وسائط وقنوات معروفة لدى المعنيين.
vتكامل وسائط التواصل وتنوع قنواته بكيفية تعزز أدوار التواصل.
ب ـ الإنصات الجيد للمتكلم وتجنب معيقات التواصل الشفهي التي من أهمها:
vعدم النظر إلى المتكلم والانشغال عنه بحركات غير مناسبة.
vاحتكار الكلمة والاستبداد بالرأي والجدل من أجل الجدل.
vالرد على المتكلم قبل الاستماع إلى وجهة نظره.
vرفض مقترحات المحاور في مجملها بسبب اشتمالها على عيب بسيط .
vالتأثر بنظرة سلبية مسبقة عن المحاور وإسقاطها على ما يقوله .
vالتواصل بخشونة وبدون لباقة.
vلوم الآخرين أو التهكم عليهم أو على مواقفهم.
vتغيير موضوع الحديث باستمرار وانعدام التركيز .
ج ـ خصائص مرتبطة بالمواقف والاتجاهات المعززة للتواصل الاجتماعي الفعال مع الشركاء:
vالتجاوب مع السكان والشركاء، والاستفسار عن أحوالهم وظروفهم وتفهمها، واتخاذ مواقف إيجابية تجاههم .
vالمشاركة في التظاهرات والمناسبات الاجتماعية دون تأفف، واحترام العادات والتقاليد المحلية .
vالتعامل الإيجابي مع الآباء والأمهات وجمعيتهم، والجماعات والسلطات المحلية والفاعلين والجمعيات بما يفيد المؤسسة والشركاء.
vالانضباط والجدية في العمل، وإعطاء القدوة والمثل بسلوك العاملين في المؤسسة ومواقفهم .
vالالتزام بالإنصاف والحياد الإيجابي في حال وجود صراعات.
vتقديم خدمات للشركاء في المجالات التي تهمهم، والمساهمة في برامج محو الأمية وحملات التوعية وأنشطة الشركاء ومشاريع التنمية المحلية.
4 ـ وظائف التواصل وأدواره:
تتطلب جودة التواصل اعتماد خطة تواصلية هادفة تيسر الإعلام والتفاعل داخليا وخارجيا، وتقوي انخراط المتعلمين والعاملين بالمؤسسة والشركاء. ويمكن الاستئناس بالمضامين المقترحة بعده لإعداد خطة لتفعيل أدوار التواصل بصفته دعامة أساسية له. وعموما يمكن حصر وظائف التواصل في الآتي:
vنقل الرموز الذهنية وتبليغها زمكانيا بوسائل لغوية وغير لغوية.
vالتأثير على الآخر من حيث تمتين العلاقات الإنسانية، وتفعيلها على المستوى اللفظي وغير اللفظي.
vيتيح تبادل الأخبار والآراء بين كافة المعنيين .
vيخلق تفاعلا وتعاونا وتنسيقا بين مختلف مجالس المؤسسة وفرق العمل المحدثة بها .
vيخدم إشعاع المؤسسة والعلاقات مع الشركاء والانفتاح على المحيط .
vيتيح إرساء الشفافية وحسن تدبير الحياة المدرسية ومشاريعها .
vينمي التفاعل مع شركاء المدرسة من آباء وأمهات، وفاعلين اجتماعيين واقتصاديين.
vيضمن الإخبار بالمراحل والعمليات المنجزة، ويمكن من تقويمها والحصول على تغذية راجعة.
vيضمن إشراك الأطراف المعنية في اتخاذ القرار وتوزيع الأدوار.
vيخدم إشعاع المؤسسة إعلاميا.
خاتمة:
خلاصة القول، يعد التواصل عملية تبادل للمعلومات والأفكار والتوجيهات من شخص لآخر ومن مجموعة لأخرى، وهي عملية تحدث التفاعل بين الأفراد والمجموعات داخل المؤسسة وبين المدرسة وشركائها. إنه دعامة لمختلف مكونات الحياة المدرسية ومشاريعها، وركيزة لعمليات التدبير من تخطيط وتنظيم وتوجيه وتنسيق ومراقبة وتنشيط وتقويم وتتبع، بهدف الإعلام والتعبئة والتأثير والإقناع والاقتناع واتخاذ القرار الذي يتطلب توافر كافة المعلومات الممكنة عن الاحتمالات المختلفة وآثارها ليكون قرارا رشيدا.
شكرا على انتباهكم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق